يرجح أن الرئيس مبارك أعطى أوامر لفض الاحتجاجات في ميدان التحرير في فبراير ٢٠١١. واذا كان الجيش المصري قد أطلق النار على المتظاهرين في ميدان التحرير وقتها كان سيظل الرئيس مبارك على رأس السلطة حتى اليوم. فلماذا لم ينقذ الجيش ذلك الهيكل من السلطة الذي جلس هو على رأسه مدة ستين عاماً؟
فخلال المائة سنة الأولى له تقريباً، كان جيش مصر الحديث تحت قيادة أجنبية. فتأميم الجيش قد بدأ فعليا مع المعاهدة المصرية البريطانية لعام ١٩٣٦، و قام ذلك بفتح صفوف الجيش أمام الطبقة المتوسطة في البلاد، والتي استمرت على مدى السنوات الـ ٧٠ الماضية مُشَكلة القاعدة الاجتماعية للجيش. أطاح الجيش في انقلاب ١٩٥٢ بالحكم الملكي المصري باسم الشعب، وتدريجيا مع كاريزما عبد الناصر وشعبيته الهائلة تحول الانقلاب إلى ثورة، بدعم كامل من الطبقات الدنيا والمتوسطة في البلاد. وخلافا لما حدث في تركيا أو إيران، لم يكن الجيش بعيداً عن الناس ولم يوصف بأنه الوصي على الدولة أو حارس الثورة، بل كان يُعتبر جزء لا يتجزأ من المجتمع.
كما كان الحفاظ على العلاقة بين الجيش والشعب هدفاً استراتيجياً للنظام الذي يحكم مصر منذ عام ١٩٥٢. فناصر والسادات ومبارك كانوا الأبناء الأوفياء للمؤسسة العسكرية، وقاموا بتمثيلها على نحو فعال في حكم مصر. ولذا كان من الأمور الحاسمة أن يتم تحقيق وإدامة موافقة الشعب على هذا النظام السياسي. وقد جعل دمج الجيش في الطبقة المتوسطة ذلك ممكنا. في مصر، المستشفيات العسكرية والخدمات الاجتماعية العديدة مفتوحة للجمهور بأسعار مدعومة، ويُعتبر جهاز التشييد والمقاولات التابع للجيش من بين الأفضل في البلاد وله مشاريع مهمة في مجال البنية التحتية الرئيسية؛ وتقريبا كل عائلة من الطبقة المتوسطة في مصر لديها فرد يعمل في الجيش أو إحدى الكيانات المختلفة مترامية الأطراف التابعة له.
وعلى الرغم من وجود جوانب مؤسسة قائمة بذاتها فيما يتعلق بالجيش المصري، على سبيل المثال فميزانية الجيش شبه سرية، إلا أن الجيش في مصر ليس عسكرياً. فمنذ حرب أكتوبر ١٩٧٣، لم تكن للجيش أي مشاركة عسكرية معقدة: لم يقم بتخطيط وتصميم وإطلاق وتنفيذ لأي عملية عسكرية كبيرة. فمنذ أكثر من ٣٥ عاما والجيش باقٍ في ثكناته..
كما لعبت خيارات الرئيس مبارك للسياسة الكلية على مدى العقد الماضي دورا ، ويشمل ذلك وصول النخبة الرأسمالية للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في ذلك الوقت إلى المستويات العليا للنظام طوال سنوات الـ ٢٠٠٠، والصعود المفاجئ لجمال نجل الرئيس الذي قلل من نفوذ الجيش. وأكد الرأسماليين سلطتهم على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، وخصوصا تلك التي تؤثر في حياة المصريين اليومية، وهذا يعني أن الوجه العسكري للنظام كان يتم استبداله خلال نصف القرن الماضي ليحل محله شكل مشوه للرأسمالية الليبرالية. كما أن صعود الرأسماليين دل أيضا على تغيير خفي ولكنه حاسم في تحديد موقع الرئيس مبارك نفسه. فبدلا من أن يكون ممثل المؤسسة العسكرية في حكم مصر، أصبح هو الرأس العليا في هيكل جديد للسلطة تهيمن عليه بعض المراكز المالية الأقوى في البلاد. وحاول هو والنخبة المحيطة به دعم هذا النظام الحاكم الجديد بخلق الشرعية الدستورية له، ومن ناحيته ركز جمال مبارك جهوده على الحزب الوطني، بينما ركز رفاقه على تأمين برلمان مرن. وتم تزوير انتخابات ٢٠٠٥ و ٢٠١٠ والتي اعتبرت معيبة على نحو واضح. وكره الناس النخبة الرأسمالية، ولم يكن من الممكن خلق الشرعية الدستورية تحت أي ظرف من الظروف. وأصبح الجيش الآن على مسافة كبيرة من الرئيس مبارك ودائرة سلطته التي كانت تشهد تبخراً لمصداقيتها وشرعيتها.
وعندما جاءت لحظة أن بقاء رئاسة مبارك تتوقف على إطلاق الجيش للنار على أكثر من مليون شخص يمثلون قطاعات واسعة من المجتمع، رفض الجيش ذلك بحزم. وسقط الرئيس مبارك وسقط هيكل حكمه الذي لم تكن له قاعدة قوة، وكانت تلك هي اللحظات الأخيرة للجمهورية الأولى. والعجيب أن نجاح النظام العسكري في ١٩٥٢ في دمج الجيش في المجتمع أصبح هو السبب ذاته لخروج النظام العسكري عن الحكم المباشر على مصر.
ولهذا السبب يجب على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يسلم السلطة الى سلطة مدنية منتخبة. فالجيش محنك سياسيا بما يكفي لإدراك أن سقوط نظام مبارك يمثل نهاية جمهورية مصر الأولى. ويعرف أيضا بأن زخم ثورة ٢٠١١ أدى إلى تسونامي من الطاقة السياسية لا يمكن وقفه وهو يحظى بدعم قطاعات واسعة من الطبقات المتوسطة في البلاد، وليس من الحكمة أن تعارضها أي مؤسسة. وسوف يبرز واقع سياسي جديد في مصر يتميز بخاصيتين رئيسيتين:
أولا: سوف يكون المشهد السياسي في مصر مجزءأ في المستقبل المنظور. فقد قام الشباب الليبراليين المصريين بخلق الزخم الذي حرك الثورة، بينما زاد عدد مختلف من المجموعات المعارضة المدنية وقدمت دعما لوجستيا. الحركة الاسلامية – ذات الأوجه المختلفة ومحورها جماعة الاخوان المسلمين- قدمت المهارات التنظيمية والمثابرة في مواجهة عنف النظام. فقد كانت الثورة نتيجة مشاركة عدة أطراف وأثبتت أنها أكبر من مجموع أجزائها. وهذا يعني أنه لا يمكن أن يتم تقديم الشرعية الثورية إلى أي جهة سياسية واحدة أو مؤسسة في الدولة. وكذلك، ليس لدى أي لاعب سياسي واحد في مصر اليوم هيكل قوي يمنحه فرصة حقيقية للهيمنه على السياسة الداخلية. وسوف يثبت هذا التفتت أنه صحي للغاية، حيث سيتنافس اللاعبون المختلفون لتوسيع دوائرهم ونشر أفكارهم. كما أن القوة المالية والقدرة على نشر الأفكار سوف تثبت فائدتها لبعض اللاعبين السياسيين في الدولة، لكن بمرور الوقت، سوف يعمل آخرون على سد الفجوة في الحصول على مثل هذه الموارد، وستشهد السياسة في البلاد تنافساً أكثر بكثير مما كانت عليه في العقود السابقة.
ثانيا: سوف نرى صراعا اجتماعيا وسياسيا مثيرا للاهتمام بين الليبراليين والإسلاميين. وعلى المدى القصير والمتوسط، فإن الإسلاميين سيتمتعون بمكاسب سهلة. فإن صعود الإسلاميين على مدى الخمسة وثلاثين عاما الماضية في المجتمع المصري، إلى جانب التغييرات الداخلية التي مرت بها الحركة الإسلامية، أدى إلى وجود عناصر معتدلة تقدم فكرها بخطاب حديث. وهذا سيعطي الإسلاميين ميزة على منافسيهم وسيلعبون دوراً بارزاً جداً في البرلمان المصري القادم. ولكن بمرور الوقت والانقسامات الداخلية والصراعات الأيديولوجية داخل الحركة الإسلامية، سوف يكتسب الليبراليون مكانة بارزة. وسوف تتمكن الجماعات الليبرالية المختلفة تدريجيا - وليس بالضرورة تلك المستغرقة حاليا في تجميع أجزائها في أحزاب – من التوصل إلى اقتراح المباديء السياسية التي تتوافق مع تطلعات الطبقات الوسطى العريضة في مصر ومن شأن هذا التفاعل أن يثري المجتمع المصري. العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين سيكون بالغ الأهمية لمصر ومثيراً للاهتمام لجميع المراقبين.