الخميس، ٢٣ مارس، ٢٠٢٣ 

الحياه

عن المرأة والانتفاضة المصرية

أمل غندور

عندما يتعلق الأمر بنا نحن النساء، في أكثر أرجاء الشرق الأوسط، فهو يتعلق يالحياة ذاتها، إلى هذه الدرجة تتشابك قصتنا مع قصص السياسة والثقافة والدين. 


حادثتان قذفتا بالمرأة في مصر مرة أخرى إلى قلب الأحداث المشتعلة بعد شهور من خفوت نجمها، الأولى لعلياء ماجدة المهدي التي ظهرت عارية في صور فوتوغرافية في تحدٍ للمصريين وثورتهم والثانية للكاتبة منى الطحاوي التي تعرضت إلى الاعتداء والتحرش الجنسي في وزارة الداخلية.


قصة الطحاوي هي تكرار للقصة الكئيبة المعروفة التي تعيشها المرأة العربية في الشارع والبيت والحقل والعمل والسجن..: التخويف  او العنف الجنسي  لغرض الإذلال والإهانة والتجريد من الإنسانية، وبالطبع هذه الحجة تعرفها كل المجتمعات ونسائها منذ فترات طويلة، ففي بعض الأماكن تكون الأساليب مقيدة وفي أماكن أخرى تكون متوحشة، لكن معركة المجتمع العربي مع نسائه تأتي بإلتواء شرير، ويمكن أن نسميه المرأة وقضية الهوية.


وهذا ما يجعل فعلة علياء المهدي الثورية أكثر لحظات الثورة المصرية استفزازاً، وغرابةً، وإن كان الهجوم على منى قد قذف بنا إلى الخلف فإن جرأة علياء العجيبة تدفع بنا إلى الأمام، قد لا تنتمي علياء المهدي إلى أي جزء من الحماس السياسي في ميدان التحرير لكنها قطعاً فرضت نفسها عليه وأجبرت الحوار، الذي يفترض أنه ثوري، على الانتباه إليها.


لقد وقفت عارية للتصوير، بدون أي تعبير على وجهها، وكأنها طفلة، لم تكن هناك أية إيحاءات جنسية، لا نظرة تقول «تعالى» ولا دعوة للحب، لكن مجرد وقوف عارٍ يؤدي دوره أمام عدسة الكاميرا، ولا توجد ألوان إلا مشبك شعر أحمر وباقي الصورة بالأبيض والأسود، وكأنها تعود بنا إلى ماض منسي.


عند الوهلة الأولى تبدو شقاوة علياء كأنها جنسية وتشتت انتباهنا، لكن الجرأة الشديدة للصورة وملتقطها يدعوانا إلى نظرة ثانية، فالصورة في ذات الوقت عبارة عن موقف ضد النفاق - «حاكموا الموديلز العراة الذين عملوا في كلية الفنون الجميلة حتي أوائل السبعينات واخفوا كتب الفن وكسروا التماثيل العارية الأثرية» - و جاهزة للقتال من أجل "حرية التعبير".


من خلال الصورة فقط ذكرتنا علياء بالمعنى السخي للثورة وبتعريفنا نحن البخيل لذات المعنى.


فمن بين الليبراليون المصريون يوجد كثير منهم غاضبون من علياء بقدر غضبهم من المجلس العسكري، ولعل ما تقصده علياء يقع هنا، فكرة أن التحرش الجنسي أصبح مشكلة حادة جداً في مجتمع محافظ بشكل متزايد، بل حتى مجتمع إسلامي جداً، فهذا يتعتبر من إحدى التناقدات الدالة والمريرة، لكن الإخوان المسلمين لا يختلفون فيما بينهم حول العري، أما الليبرالي حين يغضب يصبح هناك الكثير للتنقيب عنه وكشفه، إن علياء تتجاوز السياسة وتصل إلى مصر نفسها، إنها تخاطب طغاة الحياة المتعددين والتي ليست السياسة إلا واحدة منهم.


أشك أن تمرد علياء سيصل بعيداً، ليس الآن، ليس هنا، للأسف أنها تسبق زمنها بكثير، كثير جداً، وقد علّمنا التاريخ أن هذا يتسبب في دفع ثمن غالٍ جداً. 


هذه هي الوقائع التي تحيط بمنى الطحاوي وعلياء، وهي ليست إلا الوقائع الأخيرة في سلسلة تروي في مجملها القصة الساحرة للشرق الأوسط الحديث ونسائه، إنها قصة تمر بأكثر لحظاتها عصبية في مصر وأكثرها جرأةً في إيران.


ثورة


يستطيع من رأى الحطام المنتشر في ميدان التحرير ذلك اليوم إدراك أن الميدان لم يكن في حالة مزاجية تحريرية، تناثرت في أرجاء المكان آثار مظاهرة لم تنتهي على خير، كتب الغاضبون على لافتات أشياء مثل «ليس الآن» بينما اكتفى آخرون بصورة لنعال حذاء أو علامة X، ومن حضر من البداية سمع كلمات وشاهد تصرفات تناسبت مع الأحكام القاسية المكتوبة على تلك اللافتات. 


خرجَت إلى التحرير يومها مجموعات صغيرة من النساء بمناسبة يوم المرأة العالمي لإعلان أن قضية المرأة هي واحدة من قضايا الثورة، لكن وقفة الناشطات تعرضت للمقاطعة وتعرضن السيدات للتحرش والملاحقة حتى خرجن من الميدان، وبعضهن تم اعتقالهن وذهبن إلى السجن، وكانت من أكثر الإهانات الرجعيةً «ارجعو بيوتكو واطبخو محشي»، ولا شك أن «كشف العذرية» للسيدات المعتقلات غير المتزوجات كان أهم أسباب القلق إضافة إلى كونه مهيناً إلى أبشع درجة. 


المعاني الكامنة في هذا الحدث كانت واضحة وليست جديدة على الثورات، فقد انضمت النساء إلى نداء شعب يطالب بالحرية ثم تم حرمانهن من المطالبة بحريتهن، إذاً ستتعامل هذه الثورة مع المرأة كسابق الثورات، فتترك المرأة في الخلف، ولا شك أن أصداء الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ هي الأقرب إلى المتشككين بيننا في مصر بسبب موقعنا وهويتنا الثقافية، لأن أهمية المثال الإيراني ليست فقط في لحظة الإلهام الأولى التي أدت إلى سقوط حكم أسرة بهلوي، لكن في العقود الثلاثة التالية التي كانت رمزاً للتغيّر الجذري وأيضاً للتراجع وخيبة الأمل، ولعل أكثر من شعرن بهذه المشاعر هن بنات الثورة الإيرانية. 


والآن وقد جاء دورنا في العالم العربي لنطوي صفحة ونبدأ أخرى جديدة تذهب الأنظار إلى الوراء باتجاه إيرانلكن الحقيقة أن الخطر يكمن في منظومة المبادئ والتقاليد والمحاذير التي تتشابك لتحدد في النهاية مكانة المرأة في البيت وخارج البيت، وأصبحت قوانين الأحوال الشخصية هي الدرع والملاذ في آن واحد لهذه المنظومة من الشرائع والنزعات لنبحث عن عن أية دلائل تفيد بالاتجاه التي ستسير فيه مصر نحو المستقبل، وهناك بالطبع اختلافات مهمة بين البلدين لكن التشابهات عند الوهلة الأولى تبدو كثيرة جداً، خاصة فيما يتعلق بالأسئلة الملحة حول المرأة والهوية. 


المسألة لا تتعلق بالإناث من أبناء مصر فحسب، فموجة الثورات تنذر بالانتشار في كل أنحاء الشرق وهناك قلق حقيقي تجاه الثورات المضادة التي تسبق في أعمالها ثورات التغيير نفسها، ومصر تقف عند باب الإصلاح في العالم العربي كما كانت دائماً في كل قضايا العرب، حميدة كانت أو ذميمة، فالمسار الذي ستسلكه مصر لن يكون مسارها وحدها بل الأرجح أن كثيرين في المنطقة سيخطون وراءها بذات الخطى. 


عندما يتعلق الأمر بنا نحن النساء، في أكثر أرجاء الشرق الأوسط، فهو يتعلق يالحياة ذاتها، إلى هذه الدرجة تتشابك قصتنا مع قصص السياسة والثقافة والدين. 


لعل القضية قضية قدر، حيث نجد أنفسنا، شئنا أم أبينا، في قلب المساعي التي تسعاها مجتمعاتنا طلبا للهوية، وإذا نظرنا إلى قرن مضى من الصراعات الوجودية الكبيرة والصغيرة، الواقعية والخيالية، قد نجد أن المرأة هي أوضح ما يعبّر عن شعب محاصر يتعطش إلى الإحساس بذاته، إننا نستطيع الآن، ونحن في أوقات نتخاطب فيها في كل قضية فكرية مهمة مع الغرب المستبد، نستطيع أن نصبح في وقت واحد رمزاً لمقاومة النهب الثقافي ومعياراً للمرونة في التعامل مع انتهاكات ذلك الغرب، والأكثر من ذلك أننا نستطيع، كما تم بالفعل، أن نكون السلاح الذي يتقدم في الصفوف الأولى أمام الحس المحافظ الذي يحتوينا للدفاع ضد غواية الحداثة، وذلك الصراع لأجل الهوية كان دائماً بالأهمية الكبيرة حتى أن أضيق تفاسير الإسلام هي التي يتم الاستناد إليها لأجل أن نصبغ أهدافاً دنيوية بنيّةٍ دينية أخروية.


وجدت الأيديولوجيات المتضاربة هدفا يجمعها ضد عدو مشترك وهو الغرب، وكذلك تعارضت الدولة شبه العلمانية مع التيار الإسلامي الصاعد في كل شيء واتفقا على شيء واحد فقط وهو «الجنس الناعم» أو الحلقة الأضعف في المجتمعات المتعاركة، وتم عقد الصفقة: السياسة في مقابل الأسرة. 


أصبح الحجاب هو وجه هذه الهزيمة، سواء كان بالإجبار أو بالاختيار، غطّت الكثير من النساء أنفسهن وخالفت فكرة التحرر بالكلية، لكن الحقيقة أن الخطر يكمن في منظومة المبادئ والتقاليد والمحاذير التي تتشابك لتحدد في النهاية مكانة المرأة في البيت وخارج البيت، وأصبحت قوانين الأحوال الشخصية هي الدرع والملاذ في آن واحد لهذه المنظومة من الشرائع والنزعات، فإن تدخلت فيها فإنك لا تكون متدخلاً في تغيير الطرق القديمة فحسب بل تكون فاتحاً الباب أمام المؤامرات الأجنبية، والأسوأ من ذلك أنك تصبح متحدياً لكلام الله نفسه. 


وكيفما كان اختلاف تاريخ المرأة في بلاد المنطقة نجد أن القصة ذاتها تتكرر، وقد تكررت في مصر. 

مرّ قرابة قرن من الدعاوي لصالح حقوق المرأة، وضد حقوق المرأة، فمنذ أن ثار المصريون ضد الاستعمار البريطاني عام ١٩١٩ إلى أن تخلصوا من مبارك عام ٢٠١١ جاء كل انتصار بحفنة من النكسات وكم هائل من الاتهامات، وكلما حدث التغيير كان دائما يأتي نتيجة صراع ونجاحات تدريجية. 


وقد حققت مصر بعض الإنجازات مع دخول القرن الواحد والعشرين، ففي عام ٢٠٠٠ تم السماح للمرأة باستخراج جواز سفر واستطاعت أيضاً أن تسافر بدون إذن ولي أمرها، ثم استطاعت إعطاء الجنسية لأبنائها من زوج غير مصري عام ٢٠٠٤، ثم تم السماح لها بدخول سلك القضاء عام ٢٠٠٨.


مع ذلك تظل النتائج في جملتها مخيبة للآمال لمن يؤمن بقضية المرأة، فإننا لا نجد التمييز ضد المكتسبات في مجرد الفجوة الهائلة بين النظرية والتطبيق لكن في النظرية ذاتها، فمع كل حق مكتسب تأتي استثناءات وشروط، وفي حين أن الفقه الإسلامي يؤيد مساواة المرأة بالرجل في المواطنة لا يستحي قانون العقوبات من التحيّز بما يخالف ذلك، ويظهر هذا في أبشع صوره في المادة ٢٧٧ من قانون العقوبات التي تقول أن «الرجل مُدان بالزنى فقط إذا ارتكبه في منزل الزوجية والمرأة مدانة بغض النظر عن المكان الذي تتم فيه الواقعة.» 


ومما لا شك فيه أن بعض جوانب هذا الصراع الطويل لأجل المساواة بين الرجل والمرأة يتشابه مع غيره في الشرق والغرب ضد سلطة الرجال المترسخة، لكن يظل الأمر في هذه الرقعة الغاضبة من العالم منذ البداية متعلقاً بأمرين في نفس الوقت: بتحصين الهوية المسلمة وحماية الثقافة الأصلية من العدوان الغربي وكذلك بالمحافظة على إمتيازات الرجال في المجتمع. 


و في الواقع أن الأمر الذي جعل اليساريين والعلمانيين في إيران يحتشدون خلف الخميني قبل الثورة هو بالفعل ذلك الإحساس المشترك بالإهانة والسخط ضد الغرب المستعمر، فكانوا يرون «أننا أخيراً سنشهد انطلاقة مجتمع أخلاقي مسلم»، بالتأكيد أن هذا ما دفعهم إلى الصمت أمام ما فعله الخميني مباشرة بعد قلب نظام الحكم من إسقاط لحريات المرأة المكتسبة تحت حكم الشاه، فأصبحت كل الإنجازات التي تحققت في عصر النظام المستبد عن طريق الدعم الأمريكي بمثابة أعمال الخيانة العظمى، وهنا تشرح جانيت عفاري في كتابها «السياسة الجنسية في إيران»: «بالنسبة للفقهاء (حاملي لقب آية الله) تعتبر المرأة الحديثة مصدر تلوث للشعائر الدينية، وللعامة وأفكارهم الراديكالية تعتبر المرأة المتشبهة بالغرب والتي لا تهتم بالسياسة عميلة مخدوعة للهيمنة الغربية الاستعمارية...» (صفحة ٢٣٧)، وبالتالي كان رد فعل اليساريين عندما نزلت عشرات الآلاف من النساء الإيرانيات إلى الشوارع (في طهران في ٨ مارس ١٩٧٩ للاعتراض على سيل القرارات والأعمال التي جاء بها الخميني) أن طالبوهن بالتوقف عن رفع المطالب، وكانت رسالتهم إليهن: «ليس الآن».


لقد أصدر الخميني قرارات متتالية متسارعة: في ٢٦ فبراير قام بتعليق العمل بقانون حماية الأسرة؛ في ٣ مارس أوقف قرارات تعيين المرأة في القضاء؛ في ٤ مارس جعل الطلاق حقاً للزوج فقط؛ في ٦ مارس أخرج النساء من الجيش؛ في ٧ مارس أدخل الحجاب إلى مكان العمل؛ في ٢٩ مارس قام بفصل الإناث عن الذكور في الرياضة؛ في ٢١ مايو أوقف الفصول المختلطة في التعليم؛ في ٣ يونيو حكم بأن المتزوجات لا يستطعن حضور المدارس الثانوية التقليدية؛ ثم في ١٣ يونيو أغلق مراكز الرعاية النهارية مجبراً بذلك الأمهات العاملات على ترك العمل والاعتناء ببيوتهن.


وبحلول عام ١٩٨١ تأسست كل القواعد واجتمع الدستور الجديد مع قانون العقوبات في فرض الحظر على النساء اللاتي رغبن في حياة تتسم بالحرية، وبالنسبة لمن كن منهن لا يتمتعن بحرية كبيرة من الأصل كانت مباركات الخميني وأعماله كافيةً لإعطائهن حرية أكبر في بيئة اضطهادية جداً، حتى وإن كانت المباركات قليلة وكئيبة، فمنذ البداية والثورة تفتخر بكادرها الخاص من النساء وتعتمد عليهن.


إن كانت إيران الإسلامية ظهرت في صورة وعود حيوية عام ١٩٧٩ فهي الآن في ٢٠١١ تظهر في صورة إنجازإن صعود الإسلام السياسي بالانتخابات يدين بالفضل الكثير لاطمئنان الشعوب العربية في اتخاذ مبادئ الإسلام على أنها إرشادية في السياسة بقدر ما هي إرشادية في الحياة الشخصية لكنها بلا شك تدين أيضاً بنفس القدر لعقود من القسوة في التعامل مع المجتمع المدني واضطهاده عن طريق أنظمة الحكم المستبدة التي أعطت القوة للإسلام السياسي على حساب كل التيارات الأخرى. له لحية وشعر أبيض: مضى ٣٢ عاماً تبرهن بوضوح على محدودية الإسلام السياسي كما تبرهن بنفس الدرجة على قدرة المجتمع المدني على تحقيق طفرة في العمل والمشاركة.  


واليوم، بقدر صرامة النظام المستمرة، فالنساء يتجوّلن بقيود أقل، والواقع أنهن يعدّدن الإنجازات عبر ثلاثة عقود تقريباً كما كان الخميني يعدّد الانتقادات الموجّهة إليه في بداية تلك الفترة، والإنجازات هي:

•محو كبير لأمية النساء حيث ٨٨% منهن أصبحن يستطعن القراءة والكتابة؛

•مستوى تعليم أكبر حيث أصبحت النساء يشكلن ٦٠% من خريجي الجامعات وهن الأغلبية بين طلاب الطب والعلوم الأساسية والعلوم التجريبية والعلوم الإنسانية والآداب؛

•مساهمة أكثر في مجال الأدب (في منتصف التسعينيات كانت هناك ٢٠-٣٠ أديبة وكاتبة بينما زاد العدد عن ٤٥٠ في عام ٢٠٠٩).


وفي حين أن المرأة لا تزال خارج سلك القضاء وخارج المنافسة على الرئاسة إلا أنها دخلت إلى البرلمان، وبعد أن كانت مساهمتها في القطاع الرسمي قد انخفضت إلى ٩% عام ١٩٨٦ فقد صعدت مرة أخرى إلى ١٤% بحلول عام ٢٠١٠، وكانت في الثمانينيات ترأس عدداً قليلاً من دور النشر ثم وصل ذلك العدد إلى ١٠٠ في عام ٢٠٠٥


والفضل في تبنّي قضايا محو الأمية والرعاية الصحية يرجع إلى الدولة، خاصة في المناطق الريفية، أمّا في كل المناطق الأخرى فالفضل لإصرار النساء الإيرانيات اللاتي اقتنصن كل الفرص الممكنة: كانت هناك حرباً مدمرة بين إيران والعراق قامت بتغيير معطيات الزواج والأسرة، وطرأ واقع اقتصادي صعب أتاح لهن السهولة في الخروج إلى التعليم والعمل، وتهالكت فكرة الإسلام السياسي بحيث فتحت أمامهن المجال لمجرد أنها اضطرت لذلك.


قد تبدو هذه المساعي متواضعة إذا ما قورنت بالطموح والاحتمالات المطلقة، لكنها تبدو عظيمة إذا نظرنا إلى نقطة البداية عام ١٩٧٩، علماً بأنها تمت في ظل دولة إسلامية أعلنت حديثاً في عام ٢٠٠٦ وبثقة تامة أن أنصار الحركة النسوية يدخلن مع «الصوفيين والدراويش وعبدة الشيطان والصحفيين والمدونين على الانترنت والطلاب العلمانيين والمثقفين العلمانيين والإصلاحيين بصفتهم الأخطار الأكبر التي تهدد الأمن القومي للبلاد.» 


ويمكن فعلاً القول بأن إيران في الوقت الحاضر قد تخطت الإسلام السياسي كما يصفها آصف بيات، حيث يظهر هذا في التنافس المستمر على الظهور بين النظام والمجتمع المدني لدرجة أن النخبة الحاكمة تعلم جيداً أنه «بعد مرحلة من التجريب تم استنفار مصادر الجاذبية والحماس والشرعية للإسلام السياسي حتى عند من كانوا سابقاً هم أشد المؤيدين له.»


وماذا الآن بالنسبة للمرأة في مصر؟


إننا بالكاد قد أتممنا المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية والإخوان المسلمون والسلفيون المنتصرون بأكثر من ٥٠% من الأصوات يهللون بجمال الديمقراطية التي كان يعتبرها السلفيون - حتى الأمس القريب، أليس كذلك؟ - توليفة غربية غريبة على روح الإسلام ونصوصه.


الكثيرون أصابهم الخوف بالفعل، وذلك لأسباب وجيهة، وإذا ما وسّعنا نظرتنا لتشمل الشرق الأوسط بأكمله سنكتشف سريعاً أن الإسلام السياسي، إذا كان الأمر متروكاً له، لا يحبذ أبداً التفاعل مع الآخر، فلننظر إلى إيران منذ عام ١٩٧٩ والسودان منذ ١٩٨٩ وغزة منذ ٢٠٠٦، فمع وجود أغلبية من الإسلاميين المصريين في البرلمان سيمكنهم أن يقرروا بسهولة أنه ليس هناك ما يستدعي النقاش، ولكن الأمر الذي يجعل كل هذه الأمثلة دالة جداً هو القاسم المشترك بينهم جميعاً: هيمنة الحزب الحاكم على الدولة وأدواتها في الإكراه.


إن المصريين الخائفين على حرياتهم يجب أن يضعوا هذا نصب أعينهم، أن الإخوان المسلمين حتى الآن كانوا مضطرين إلى عرض حجتهم حتى يصلوا إلى سدة الحكم وهذا يشير فعلاً إلى أن ما قاله بيات عن حقائق ما بعد الإسلام السياسي قد بدأ بالفعل في الحدوث في مصر، لكن ما يعكسه ذلك أيضاً هو حرص الإخوان المسلمين على ضرورة تسوية الخلافات في بلد يتمتعون فيه بنفوذ كبير لكن لا يتحكمون فيه، حتى الآن، وهذا السبب وحده كافٍ للتنبؤ بأن مستقبل مصر يعد بالاختلاف عن إيران أو أي مكان آخر وصل فيه الإسلام السياسي إلى الحكم.


إذا وضعنا هذين البلدين جنباً إلى جنب لن ننتظر كثيراً قبل أن تفرض الاختلافات نفسها علينا، سنلاحظ كيف عدّل اليسار من معتقداته للتشابه مع معتقدات الخميني، ثم نشاهد تحفظ اليساريين والليبراليين المصريين بالرغم من تشتتهم في الوقت الحالي، تذكروا كيف تم طرد الجيش الإيراني سريعاً من الساحة السياسية عام ١٩٧٩ وكيف أن الجيش المصري في أغلب الظن سيحتفظ بثقله في السياسة المصرية، ونجد أن الشباب في إيران كانوا في حالة انبهار بالخميني ابن السبعين عاماً وقد أسرهم حضوره وجاذبيته عند الحديث وأما في مصر فالشعب غير منساق وراء أحد بهذه الطريقة والبلد يغيب عنه أي فرد يتمتع بمثل هذه القوة والشعبية.


لكن، أكثر من أي شيء آخر، تذكروا أن الإسلاميين المصريين المنتصرين سيستحوذون على حكومة اعتنقت بالفعل جزء مما يدعون إليه في حين أن الخميني كان عليه البداية من الصفر، هذا هو الطريق الذي مهده مبارك لـ «إخوانه» بامتياز، وإذا أسفرت الأمور عن وضع سيء فلعل هذه تكون أكثر أعماله خلوداً.


لكن إذا أدى التحفظ الديني إلى التشابه بين مصر وإيران في الكثير من الملامح الاجتماعية والمواد القانونية، فكذلك تشهد الأعوام على مدى تأثير الإسلام السياسي ونجاح حلوله، فبالنسبة لمسألة التقوى وحدها وجدنا أن المكاسب في إيران صاحَبَتها أمور تدعو للسخرية مثل ازدهار الدعارة وتفشي المخدرات, وفي مصر انتشر التحرش الجنسي في دولة يرتدي فيها الحجاب أكثر من ٨٠% من النساء البالغات.


ويبدو أن نتائج الانتخابات تعارض هذا النوع من الحديث، فكم من التشكك يمكن أن يتخلل مثل هذا الفوز الساحق؟ ومع ذلك فمن الحماقة أن نفترض أن الأرقام تؤكد اعتناق عام وكامل للمعتقدات المتطرفة، هناك الكثير مما سيتضح في قصة مصر التي لا تزال قيد الاكتمال ونحن لا نزال في الصفحة الأولى، والأكثر من ذلك أننا نعلم جميعاً أن القليل من  مؤلفي القصة من المصريين وأن الأحداث التي ستؤثر فيها قليل منها الذي سينشأ في داخل مصر.


وكما أشار بنكاج مشرا في مقال حديث، إن صعود الإسلام السياسي بالانتخابات يدين بالفضل الكثير لاطمئنان الشعوب العربية في اتخاذ مبادئ الإسلام على أنها إرشادية في السياسة بقدر ما هي إرشادية في الحياة الشخصية لكنها بلا شك تدين أيضاً بنفس القدر لعقود من القسوة في التعامل مع المجتمع المدني واضطهاده عن طريق أنظمة الحكم المستبدة التي أعطت القوة للإسلام السياسي على حساب كل التيارات الأخرى.


في كل الحالات فإننا سنكتشف قريباً، كما يقول مشرا: «... إذا كان الحكام الجدد في العالم العربي المتأثرون بالإسلام سيحتفظون بقدسية التنوع والتعددية في المؤسسات القانونية والسياسية بدلاً من الإعلان بأن الشريعة الإسلامية تحتوي كل ما نحتاج إليه.»


ولا شك أن الاختبار الجوهري سيكون كيفية تعامل هؤلاء الحكام فيما يخصنا نحن النساء.


لكن اللحظة الحالية، بقدر ما هي مخيفة، تدعو إلى أقصى درجات الحرص والعزيمة، وليس الذعر والخوف.

لقد أجبرت الثورة المصرية ساحة المبارزة السياسية على الانفتاح، ومن الضروري جداً أن تظل كذلك، وكما أن هذه البيئة الجديدة تحدّت المجلس العسكري فسوف تفعل ذلك أيضاً مع الإخوان المسلمين والسلفيين، ولا شك أن كيفية تفاعل هؤلاء الثلاثة، الخصوم أحياناً والحلفاء أحياناً، سيكون له الأثر الكبير على مستقبل مصر الديمقراطي، لكن بدون السيطرة على أدوات الدولة في الإكراه والعنف لن يستطيع الإسلاميون فرض إرادتهم الأحادية ولا التحايل على نتائج الانتخابات المستقبلية.


للأسف، بالنسبة لنساء مصر، الطريق إلى الأمام لن يكون مستقيماً أو سهلاً وسيمتلئ بالنكسات والإهانات والاعتداءات والتحرش، والعنف الذي تعرضت له النساء في ميدان التحرير قبل أي مكان آخر يقف علامةً حزينة على كراهية النساء التي تجمع بين الكثير من القامعين والثائرين في آن واحد، لكن نساء مصر لا يحتاجون إلا إلى استحضار قريناتهن في إيران ليتأكدن أن بالمثابرة والإبداع يمكنهن التغلب على أسوأ الاحتمالات.