الخميس، ٢٣ مارس، ٢٠٢٣ 

السياسه

هل سيستطيع العرب تحقيق ديمقراطيات حقيقية؟

‎جيمس زغبي

مطلوب شيء من التواضع و فهم للتاريخ قبل أن نعظ و نصدر الأحكام 

 

هذا سؤال يوجّه إليّ كثيراً هذه الأيام: «هل سيستطيع العرب تحقيق ديمقراطيات حقيقية؟» (أو شيء يشبه الديمقراطيات)؟ وبعد عدة حوارات مع السائلين توصلت إلى أنهم عادة يكون في مخيلتهم مجموعة من الافتراضات حول معنى «الديمقراطية الحقيقية» إضافة إلى فهم ساذج بعض الشيء ولا يتفق مع الوقائع التاريخية عن كيف تنشأ الديمقراطيات ثم كيف تعمل وتتطور.


الديمقراطيات ليست مجرد انتخابات، وليست الانتخابات الأولى هي الأهم، إنما الأهم هي الثانية وكل انتخابات بعد ذلك.

‎كنت في اليمن عام ١٩٩٣ عندما دعيت للحديث هناك عن الديمقراطية والانتخابات، كانت اليمن على وشك انطلاق أول سباق برلماني في مرحلة ما بعد الوحدة وكان الجو مشحوناً بالسياسة بقدر ما كانت جدران المدينة مشحونة بالملصقات، وعند زيارتي لمقار (أو جلسات قاط) كل من الأحزاب السياسية المتنافسة واستماعي إلى استراتيجياتهم للفوز بالسباق وخططهم لمستقبل الدولة استمعت أيضاً إلى شكاويهم، ومن أمثال الشكاوى: «الحزب الحاكم يصر على تمزيق لافتاتنا» أو«إنهم يدفعون للناس مقابل الأصوات ويقولون لهم من ينتخبون» وغير ذلك. ‎


ولأني منخرط في السياسة والانتخابات طوال حياتي لم يكن أيٌ من هذا جديداً بالنسبة لي وقلت لهم ذلك، قلت: «هذا يحدث كثيراً فى شيكاغو » أو هذا ما نسميه «السير حول المال» في فيلادلفيا» أو «أعرف مدى صعوبة هذا السلوك فقد حدث معنا العام الماضي في ميشيجان».


فاشتكى لي مسئولٌ من الخارجية الأمريكية كان حاضراً في أحد الجلسات من هذه التعليقات، لكني اعترضت على النقد وكانت حجتي أني لا أستطيع التظاهر بأن الديمقراطية في الولايات المتحدة تتصف بالكمال وأنه يجب محاكاتها وكأنها عارضة أزياء شهيرة تخلو من العيوب تسعى السيدات جميعاً إلى التشبه بها، وليس سبب رفضي لهذا لمجرد أنه غير صحيح ولكن أيضاً لأنه يجعل المعايير مرتفعة جداً بحيث تصبح مستحيلة المنال للآخرين.  


فكنت أذكّر كل مجموعة أجتمع بها أن المهم ليس أن تخلو الانتخابات من العيوب ولكن أن تكون الآليات موجودة من أجل الفصل في كل الشكاوى بلا تمييز واتخاذ اللازم بحيث يتم تصحيح المشاكل قبل الانتخابات التالية.  


‎لم يحدث هذا في اليمن، وكانت النتيجة أن النظام أصبح أكثر انغلاقاً، ليس انفتاحاً، مع كل دورة من الانتخابات، وضعفت الثقة في الانتخابات بصفة عامة ومعها الثقة في الديمقراطية بصفة خاصة.  ‎الديمقراطيات لا تُولد، إنها تصنع مع الوقت. ‎


في أولى فترات رئاسة بيل كلينتون دعيت إلى دار المحفوظات الوطنية لأستمع إلى الرئيس يلقي كلمة عن خطته لـ«تعديل وليس إنهاء» برنامج «التحرك الإيجابي» في البلد، وأثناء انتظار خطابه دُهشت من اللوحات الجدارية التي تحيط بسقف القاعة الرئيسية، إنها تصور مشاهداً لـ«مؤسسي أمريكا» الذين كما نعلم، كانوا جميعاً رجالاً بيضاً يمتلكون الموارد (الأراضي أو التجارة أو مهنيين ناجحين، إلخ)، فسألت نفسي سؤالاً وأنا أنظر إليهم: «هل خطر ببال أحد هؤلاء (وكثير منهم امتلكوا العبيد) أية فكرة عن ما هو مصير مشروعهم الوليد غير التام؟» ‎

المهم ليس أن تخلو الإنتخابات من العيوب ولكن أن تكون الآليات موجودة من أجل الفصل في كل الشكاوى بلا تمييز واتخاذ اللازم بحيث يتم تصحيح المشاكل قبل الإنتخابات التالية.
من المهم أن نتذكر أنه في عام ١٧٨٨ عندما تم التصويت في فرجينيا من أجل التصديق على دستور للولايات المتحدة الجديد جاءت نتيجة الأصوات ٨٩ مقابل ٧٩ لصالح الموافقة، هذه الأرقام تعكس القيود التي كانت مفروضة على حق التصويت في ديمقراطيتنا الجديدة، حق التصويت لم يُعطى إلا لرجال بيض أثرياء، ويجب ألّا ننسى أبداً أن نظام العبيد المؤسَسي لم يُلغى إلا بعد سبعة عقود من هذا التاريخ، وبعد ستة عقود أخرى حصلت المرأة على حق التصويت، ثم مرّت فترة أطول من ذلك حتى امتد حق التصويت كلياً ليصل إلى الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، ويمكن أن نضيف هنا القيود التمييزية والمرهقة التي فرضت على الأمريكيين الأفارقة حتى بعد أن تم ضمان حقهم في التصويت، أو عمليات الإبادة المشينة التي عانى منها الأمريكيون الأصليون، أو «الحيل القذرة» التي تم استخدامها لترهيب المنتخبين من أصول أسبانية وأقليات أخرى ولتحجيم أعدادهم التي تذهب إلى التصويت، فيجب أن تكون هذه النقطة واضحة، لم تولد ديمقراطيتنا كاملة بلا عيوب، بل على العكس لقد كانت مليئة بالمشاكل، ولكن ما يتساوى في الأهمية أيضاً ويجب أن نتذكره جيداً أن ديمقراطيتنا ظلت تنمو وتتوسع.  


وحتى الآن، بعد وجود أدلة على مشاكل واسعة النطاق جعلتنا نشكك في نتائج السباق الرئاسي عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٤ وقرار المحكمة العليا الذي فتح المجال أمام مبالغ غير محدودة من أموال الشركات التي لا تعرف بالإسم لتلعب دوراً في الانتخابات، يصبح واضحاً وضوحاً مؤلماً أن ديمقراطيتنا لا تزال تواجه تحديات حقيقية وأن الكثير من العمل الجاد لا يزال مطلوباً هنا في بلدنا. ‎


فإذاً، مطلوب شيء من التواضع وفهم للتاريخ قبل ان نعظ و نصدر الأحكام.  


‎أفكار ختامية
‎هناك ملاحظتان مهمتان بعد ما سبق، الأولى هي أنه بينما ستختلف أشكال وسرعات الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي بحسب التقاليد والأوضاع فالاختبار الحقيقي لحيوية هذه الديمقراطيات وصلاحيتها سيرتكز على قدرتها في إصلاح نفسها وقدرتها على التغيّر والتوسع.


ثانياً، بينما أن الانتخابات واتساع المشاركة السياسية مهمان جداً فمن الضروري أيضاً أن تحترم الحكومات حقوق الإنسان والحريات الأساسية ، يجب عليها: توفير حق تصحيح المظالم للمواطنين، أفراداً ومجموعات؛ وحمايتهم من سوء المعاملة على أيدي الدولة؛ وإنشاء قضاء مستقل يضمن الإجراءات العادلة وسيادة القانون ويحمي حقوق الأفراد داخل منازلهم وبصفة شخصية ، فإذا استطاعت الديمقراطيات الجديدة تحقيق هذا ستكون متقدمة عنّا عندما بدأنا مشوارنا مع الديمقراطية، وما بعد ذلك سيحتاج إلى الوقت والعمل الجاد، ولكننا نأمل أنه لن يحتاج القرون التي احتجناها نحن.

جيمس زغبي هو رئيس المعهد العربي الامريكي بواشنطن

أقرأ المزيد لـ:  ‎جيمس زغبي

 

شارك

 

 

أضف تعليق

يرجى العلم بأن بياناتك الشخصية لن يمكن تقاسمها أو الكشف عنها لأي طرف ثالث، وسيتم الحفاظ على سريتها

 

رأي الجريدة

رسالة مفتوحة إلى دكتور محمد البرادعي

أنا أكنّ لك أقصى درجات الاحترام والتقدير. ولا يمكننا أبداً أن ننسى أن شجاعتك وبصيرتك كانتا وراء المطالبة بالتغيير والتحول إلى الديمقراطية خلال الأعوام...   قراءة المزيد

الدستور

فالدستور ليس مجرد وثيقة تضمن تساوينا كمواطنين أمام حاكم يحكمنا وفق قواعد محددة لا وفق أهوائه، بل هو مرآة الآمال، وعنوان القيم، وانعكاس للمستقبل الذي نحلم...   قراءة المزيد

المزيد

مش فاهم؟

مش فاهم؟

"مش فاهم؟" هو عدد من رسوم الكاريكاتير تم صياغتها في إطار كوميدي بهدف إثارة تساؤل محدد يشير الي وجود تناقض واضح أو تضارب في المصالح أو شيء غير صحيح، و لكن...  قراءة المزيد

المزيد

استطلاعات رأى

حذف كلمة مدنية من الدستور سيؤدي الي قيام
 دولة عسكرية
 دولة دينية
 دولة مدنية
 لا أهتم
هل تؤيد اقامة مباريات كرة القدم بجمهور ؟
 نعم
 لا
 لا أهتم