تتحدد معالم هذه المجالات من خلال المجالس النيابية والتشريعية والمحلية, وهذه المجالات قد تكون على المستوى القومي للدولة وقد تكون على المستوى الإقليمي المتمثل في المجالس المحلية للمحافظات والمدن والقرى ويحسن بيان تلك المجالات من خلال هذين النوعين كما يلي:
أولاً: مجالات مشاركة المرأة السياسية على المستوى القومي:
وهذه المجالات تتمثل في الميادين الآتية:
(١)حق الترشيح للمجالس النيابية:
النيابة عن الأمة ولاية وهذه الولاية تثبت بتوكيل الناس لفرد أن يقوم بها نيابة عنهم, فإن القيام بالعمل العام لا يصلح أن يقوم به جميع أفراد الأمة, لأن مبناه على الكفاءة والأمانة, والناس جميعاً ليسوا على مستوى واحد فيها فوجب أن يقدم الأولى ثم الأولى الأولى في القيام بها وبالقدر الذي يتسع له المجلس التشريعي وفقاً للعدد المخصص لكل إقليم أو محافظة.
وجه الصلة بين التشريع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنهما يمثلان موضوع التشريع البرلماني في الوقائع المعاصرة إذا استبان ما فيها من المنكر أو ظهر ما فيها من النفع
والولاية النيابية ثابتة للمرأة بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الصحيحة:
(أ)أما القرآن الكريم: ففي قول الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وهذه الآية تدل على أن حق المرأة مساو لحق الرجل في الترشيح للمجالس النيابية والتشريعية, حيث أخبرت أن المؤمنين أولياء بعضهم مع المؤمنات, والولاية المتبادلة تدل على أن ولاية الرجل كما تثبت على المرأة في العمل العام, فإنها تثبت للمرأة على الرجل فيه, وقد أشارت الآية إلى أن تلك الولاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والقيام بتلك المهمة أقرب ما يكون لمهمة المجالس التشريعية في وقتنا, وهي التشريع والرقابة والمشورة.
ووجه الصلة بين التشريع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنهما يمثلان موضوع التشريع البرلماني في الوقائع المعاصرة إذا استبان ما فيها من المنكر أو ظهر ما فيها من النفع, وأما الرقابة فإن من أهم الخصائص التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متابعة المنكرات والانحرافات التي تقع في مجال الأنشطة العامة للدولة وهذا هو المفهوم المقصود بالرقابة في الفقه السياسي المعاصر. وحيث أثبت القرآن الكريم ذلك للمرأة والرجل على قدم المساواة, يكون الترشيح لأداء تلك المهام مشروعاً لذلك.
(ب)وأما السُنّة الشريفة: فقد أثبت النبي – صلى الله عليه وسلم – حق الرعاية للمرأة كما أثبتها للرجل فيما صح عنه: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته الرجل في بيته راع وهو مسئول عن رعيته والمرأة في بيتها راعية وهي مسئولة عن رعيتها ألا كلكم راع ومسئول عن رعيته", فقد أثبت هذا الحديث الشريف الرعاية على الغير لكل من الرجل والمرأة على قدم المساواة في المسائل المتصلة بغيرهما على مستوى الأسرة, وإثبات المساواة فيه يدل على إثبات المساواة في غيه من الولايات, ومن ثم يكون الحديث الشريف مؤكداً لما دل عليه القرآن الكريم في الآية السابقة.
(ج) وفي مجال الشورى بوجه أخص نجد أن للمرأة رأياً تبديه وتجادل عنه, وتحاور به, وهي – أيضاً – مشيرة يتعين العمل برأيها الذي تششير به إذا صادف وجهاً من وجوه المصلحة الراجحة, وقد جاء في التشريع الإسلامي, ما يدل على ذلك في قصة (أم سلمة) زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وقت صلح الحديبية. فقد دخل عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – مطرقاً مهموماً بعد أن عقد الصلح مع قريش, وأمر المسلمين أن يتحللوا من إحرامهم فلم يمتثلوا, ظناً منهم أن في هذا الصلح غبناً للمسلمين, فقالت يا رسول الله: ما خطبك؟, قال: هلك المسلمون يا أم سلمة, أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا ويتحللوا من إحرامهم فلم يمتثلوا, قالت: أعذرهم يا رسول الله, فقد جاءوا على أمل دخول المسجد الحرام مقصرين, ثم مُنِعوا منه وهم على بعد أميال منه, وبعد أن تحملوا مشاق السفر وصعوبة التنقل من المدينة إلى مشارف مكة, فهم لذلك مكروبون, والرأي أن تخرج فتنحر وتحلق, فإذا رأوك فعلت تبعوك لأنهم لن يخذلوك يا رسول الله, ففعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ما أشارت به وعلم المسلمون أن الأمر جد لا هزل فيه, وفعلوا ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – اقتداءً به واتباعاً لسنته, فهدأت العاصفة وانقشعت الفتنة بفضل مشورة امرأة ذات رأي سديد.
وهذه الواقعة التشريعية لم تسق في بناء التشريع الإسلامي للتسلية, بل جاءت للاعتبار والاتباع لتعلم المسلمين والمجتمعات الإنسانية كلها: أن العبرة في الرأي ليست بصاحبه, وإنما هي في الرأي ذاته, فإذا كان سديداً فإنه ينبغي اتباعه سواء أكان رأي رجل أم امرأة, لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
وهذه الواقعة وغيرها, تدل على أن من حق المرأة أن تختار للمهام النيابية وفقاً لشكل الاختيار الذي يحدده العصر في إطار التسوية بين الجميع, يستوى في ذلك أسلوب الانتخابات ترشيحاً وانتخابات, وأسلوب التعيين لهذا الغرض في المجالس النيابية المختلفة, إذ أن اختيار المرأة لذلك يعد تطويراً للصورة التي كانت تعبر فيها المرأة عن رأيها في العصور المتقدمة. كما حدث في قصة أم سلمة, وفيما حكاه القرآن عن امرأة فرعون التي لم تقبل انحراف زوجها وأعلنت عليه العصيان بسبب انحراف عقيدته وسلوكه, وكما ورد في قصة المجادلة التي سُميت سورة باسمها حيث تقترب من مضمونها وإن اختلفت عن شكلها باعتبار أنه اختلاف وسيلة وليس اختلافاً في الحكم.
في مجال الشورى بوجه أخص نجد أن للمرأة رأياً تبديه وتجادل عنه, وتحاور به, وهي – أيضاً – مشيرة يتعين العمل برأيها الذي تششير به إذا صادف وجهاً من وجوه المصلحة الراجحة, وقد جاء في التشريع الإسلامي, ما يدل على ذلك في قصة (أم سلمة) زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وقت صلح الحديبية.
(٢)حق الانتخاب:
والانتخاب في ذاته يحمل معنين:
أولهما: إنه توكيل لشخص بأن يقوم بعمل معين نيابة عن الموكل, والمرأة أهل للوكالة, لأنها تملك الاختيار والتعبير عن رأيها وكل ما يملكه الإنسان أو يقدر على مباشرته بنفسه يجوز أن يوكل فيه غيره.
وثانيهما: أن فيه معنى الشهادة لشخص بأنه يقدر على أن يقوم بمهمة النيابة في التشريع, والمرأة من أهل الشهادة, فيجوز أن تشهد لشخص بأنه أهل للقيام بمهمة النيابة التشريعية على خير وجه, كما أن الشهادة في المجال العام رأي يجب أن يُحترم ولا يجوز لأحد – حتى ولو كان زوجاً أو رئيساً في العمل – أن يحمل المرأة على أن تكتمه أو أن تقول ما يخالفه, وذلك لمخالفة هذا الحجر لما أمر الله به من إقامة الشهادة مجردة, ومن وحي ضمير الشاهد, وذلك حين قال: "وأقيموا الشهادة لله", وحين قال: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه", والمرأة في الخطاب المقصود بهاتين الآيتين الكريمتين كالرجل, فيجوز أن تكون من أهل الانتخاب.
(٣)حق تولى المناصب الوزارية والقضائية:
وللمناصب الوزارية والقضائية جانب وظيفي تتولاه المرأة بحكم كفاءتها وقدرتها على القيام به وقد رأينا أنها في إطار توافر شروط تولى الوظيفة بحقها, تكون كالرجل سواء بسواء, بيد أنه إذا كان لتلك الوظائف جانب سياسي, فإنها تكون أهلاله وفقاً لشروط تولي الوظائف العامة وتوافر شروط النيابة في المجالس التشريعية إذا وُجدت فيها.
ثانياً: مجالات مشاركة المرأة السياسية على المستوى المحلي:
والمجالس المحلية على مستوى المحافظات والمدن والقرى محكومة بمبادئ الولاية العامة المتبادلة بين الرجال والنساء, ومن ثم يكون لها أن تُمارس حقها السياسي على هذا المستوى انتخاباً وترشيحاً.
أهمية مشاركة المرأة في تلك المجالات:
بيد أن مشاركة المرأة في تلك المجالات قد يمثل لها أهمية تفوق في نطاق تطبيقها ومجالاتها المجالس النيابية ذات الطابع القومي. وذلك لأمرين:
أولهما: أن نطاق الخدمات التي تُودَى عبر تلك المجالس كثيرة ومتعددة ومواكبة لمواطن الخدمة المقصودة من قيامها وهي أماكن وجود الفئات الشعبية البعيدة عن العاصمة والتي قد لا تقدر على تحصيل الخدمات التي تستحقها فيما لو ظلت تلك الخدمات خاضعة لمبدأ المركزية في توزيعها, كما أنها تشمل كافة الخدمات التي يحتاجها هذا القطاع العريض من الناس في مجالات التعليم والصحة والصناعة والزراعة وغير ذلك من مجالات الخدمة العامة.
الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها
ثانيهما: أن اتساع النطاق الجغرافي لتلك المجالس على مستوى الدولة كلها في المحافظات والمراكز والقرى تُتيح للمرأة أكبر قدر من المشاركة السياسية, ويستوعب عدداً كبيراً من النماذج النسائية القادرة على العطاء.
كما أن تلك المجالس تُمثل مدارس لصقل التجارب السياسية للمرأة وتكوينها في إطار خبرتها السياسية وذلك من شأنه أن يؤدي – بحسب المآل – إلى زيادة مشاركة المرأة في العمل السياسي ويُساعد على علاج مشكلة العزوف عن المشاركة في هذا المجال من قِبل بعض النساء حتى كاد هذا النشاط أن يكون قصراً على الرجال وحدهم, وهو خللٌ يمكن أن يُعالَج من خلال تلك المجالس المحلية, كما أن لتلك المجالس أهمية كبرى في تحقيق العدل الاجتماعي, وفض الارتباك والتناقص بين الاختصاصات المركزية واللامركزية بما يضمن وصول الخدمات لكافة الأفراد على قدم المساواة, لا سيما وأن تلك المساواة هدفٌ دستوري واجب النفاذ.
وبعد:
فإن ما سبق إيراده في تلك الورقة يُمثل إطاراً عاماً لحق المرأة في الممارسة السياسية في ضوء مبادئ التشريع الإسلامي, أرجو أن يكون نافعاً ومفيداً فيما كُتب له وأن يلقى قبولاً ممن يقرؤه.
هذا وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين
أ.د. عبد الله النجار
الأستاذ الدكتور عبد الله مبروك النجارأستاذ رئيس قسم القانون الخاص بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهرعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف ومحام بالنقض.