إذا أردنا أن نحاسب أحدًا، فالكل مخطئ: (الإدارة السابقة والشعب)، و(الإعلام والنخبة) كلهم مخطئون، فالنخبة ساهمت بانحدار ذوق المصريين من خلال الأفلام الهابطة وغيرها، والإعلام مخطئ لأنه جرى وراء الفرقعة وليس الإصلاح، والحاكم فقد الروية والإدارة السليمة، والشعب فرعن المسئول.
أفِق يا شعب مصر، وكفى متاجرة بدم الشهداء، فالشهداء الحقيقيون لم يموتوا للقصاص والمحاسبة بل ماتوا من أجل رفعة مصر، ماتوا من أجل أن يعيش المصريون في كرامة وحرية وعزة نفس. وبصفتي مواطنًا مصريًا لم أجد على الساحة السياسية والإعلامية سوى متاجرة بدم الشهداء وقلب أعمى يريد القصاص من أجل القصاص، وآخر يريد النقد والمعارضة من أجل المعارضة، وآخر يريد إلهاب مشاعر المصريين تحت شعارات بالية، وما أكثرها، للقضاء على الحقائق التاريخية والالتفاف حول ضرورة النمو والإنتاج ورفعة مصر في جو من الريبة واللوغاريتمات ونظريات المؤامرة. إنني أعتقد أن الثورة الحقيقية يجب أن تبدأ بتعريف الأشياء بأسمائها الحقيقية والثابتة تاريخيًا بدون تحريف، دون التفاف ودون شعارات، وبصفتي مهندسًا فأنا أحب أن نبدأ بالمعطيات والثوابت العلمية والتاريخية بعيدًا عن النظريات ثم نستقطب منها الحلول والأهداف.
ولذا فأنا أرغب بسرد هذه الحقائق التي لا يختلف عليها معظم المشاهدين المخلصين.
•إن أكثر الأوقات التي تمتع فيها المصريون بجزء من الديمقراطية الحقيقية كانت قبل ١٩٥٢.
وأناشد الجميع الكف عن المتاجرة بدم الشهداء والرغبة المميتة في القصاص، وأن تكون أولوياتة النهوض والإصلاح والبناء•إنه لا يكفي أن تحب مصر لتكون رئيسًا ناجحًا، فلا أحد يختلف في أن جمال عبد الناصر كان وطنيًا محبًا لمصر، ولكنه أذى مصر والمنطقة العربية والإفريقية كما لو كان ألدَّ أعداء مصر، فما صارت إليه مصر والدول العربية المجاورة هو صناعة ناصر، فقدان مصر جزءًا من أراضيها وضياع القدس، وفقدان ذهب مصر في حرب اليمن، وإنشاء القواعد الفولاذية من الديكتاتوريات وحكم العسكر، وتخلف الشعوب، بل إن حسني مبارك يعتبر أحد نتائج هذا الحكم، فليس مقومات النجاح حب مصر فقط، بل يجب توافر الحنكة والإدارة والرؤية المستقبلية.
•ثبت بالتاريخ والوقائع أن القائد الحقيقي يجب أن يكون لديه رؤيا، وعنده علم فن الإدارة، متعلمًا ومثقفًا ومتواصلاً مع العالم الحديث.
•ما فقدته مصر في الستين عامًا الماضية ليس الثروات والمال بقدر ما هو سلب من تعليم، وثقافة، وذوق، وقوة إقليمية، وكرامة، وعيشة آدمية.
•إن الإدارة السابقة اتسمت بالغباء وعدم الرؤية وفقدان المشروع الوطني، وعلى اختلاف كل التحليلات السياسية، أكاد أزعم أن حكومة آخر ٥ سنوات من حكم مصر هي الأفضل على الإطلاق مع العلم بأن رئيس الوزراء والوزراء ما هم إلا سكرتارية للرئيس، ولكن المجموعة الاقتصادية قادت ثورة إصلاحية اقتصادية تم فيها إصلاح النظام الضريبي وزادت الحصيلة، وتم استقطاب مستثمرين عرب وآخرين أجانب، مما أدى إلى ارتفاع المرتبات والميزات حتى اقتربت من مرتبات الخليج، ولكنها كانت من نصيب المتعلمين والعارفين باللغات الأجنبية وبدون وسايط أو محسوبية، ولكن السؤال المهم: كم من المواطنين كان لهم الحظ في هذا التعليم؟ وهذه تعتبر أهم سقطة سياسية، لم يولَ التعليم أية أولوية أو أهمية؟ فالمشروع الوطني يجب أن يكون التعليم أهم أولوياته، أما بالنسبة للفساد فبرؤية ثاقبة نجد أن أكثر من ٥٠ % من الأباطرة الذين هيمنوا اقتصاديًا كانوا في الأصل قادمين من المؤسسة العسكرية أو المخابراتية، فقط في آخر ١٠ سنوات تغيرت قليلاً هذه المنظومة وأصبح الفساد متشعبًا في المحليات والقطاع العام والمؤسسات إلخ. فضلاً عن أن حجم الفساد إذا وجد في الوزارات التكنوقراط كان في معظمه بناء على تعليمات من رئيس الدولة، وأظن أنه أقل من حجم الفساد في حكومات الـ٦٠ سنة الماضية.
•إن هناك جوًا من الضباب حول حجم الفساد في ظل أجواء من عدم التأكيد أو النفي.
•إن هناك حالة من الضباب عن الحالة الأمنية حتى هذه اللحظة. من المسئول عن: فتح السجون، موقعة الجمل، حرق كتاب وصف مصر، أحداث البلطجة المختلفة؟
تعليم المصريين وثقافتهم والذوق العام والأخلاق هي ما سُرق من المصريين، وهذا في نظري يُعتبر خيانة عظمى للوطن، وإذا كنا نريد أن نحاسب الأنظمة السابقة ثوريًا فهذا ما يجب أن نحاسبها عليه وليس بعض الفيلات والرشاوى، لأن ما فُقد من علم وأخلاق يصعب تعويضه، أما المادة فسهل تعويضها.
•وهناك طريق من طريقين يمكن أن يسلك المصريون أحدهما الآن :
١.أن ندفن الماضي ونتطلع إلى مستقبل أفضل يجعل مصر في صفوف الدول الحديثة المتقدمة
٢.أو أن يكون هدفنا الأساسي هو الانتقام، وأن نجعل الماضي يدفننا في جو من الاختلافات ونظريات المؤامرة والقصاص
في عام ١٩٨٠، إذا تقدم عشرة أشخاص لحكم مصر فإن أكثر من ٦٠ % من المتقدمين كانوا سيئولون إلى نفس مصير مبارك، وذلك لأن الأساس غير سوي والحاشية ليس لديها مقومات الإدارة الحديثة أو الرؤية بالنسبة إلى الدول المتقدمة.
إن أهم إنجازات الثورة هي تحديد مدد الرئاسة وعدم توريث الحكم، وحرية التعبير، ويتبقى سيادة القانون والمحاسبة على أساس قانوني، وهذا في حد ذاته أكبر إنجاز منذ سنة ١٩٥٢، ولكن لغياب الوعي العلمي والثقافي وتغلب ثقافة الانتقاد والتواكل والطمع، زايد الناس على بعضهم لطلبات هي في الواقع صعب تحقيقها في مدد قصيرة، وأصبح معظم الشعب عالمًا في السياسة، وما أسهل الكلام والاسترسال، وما أحلى ما كنا ندرسه في المدرسة الابتدائية (تربية قومية) من شعارات لا تقدم ولا تؤخر، بل هي تبعد الشعب عن الواقع وتجعله يعيش في منطقة اللاوعي.
إذا أردنا أن نحاسب أحدًا، فالكل مخطئ: (الإدارة السابقة والشعب)، و(الإعلام والنخبة) كلهم مخطئون، فالنخبة ساهمت بانحدار ذوق المصريين من خلال الأفلام الهابطة وغيرها، والإعلام مخطئ لأنه جرى وراء الفرقعة وليس الإصلاح، والحاكم فقد الروية والإدارة السليمة، والشعب فرعن المسئول.
•وهناك طريق من طريقين يمكن أن يسلك المصريون أحدهما الآن :
•أن ندفن الماضي ونتطلع إلى مستقبل أفضل يجعل مصر في صفوف الدول الحديثة المتقدمة ونتجاهل نظريات المؤمراة المختلفة حتى لو كان بعضها حقيقيًا الآن، من الممكن أن نتخطاها بالتركيز على الإنتاج والإصلاح والبناء، في ظل وجود ثلاثة ثوابت أساسية:
•برلمان قوي يراقب ويشرع.
•تحديد مدد الرئاسة.
•لا لتوريث أحد أو فصيل معين من الهيمنة على الدولة من خلال انتخابات نزيهة كل أربع سنوات.
•أو أن يكون هدفنا الأساسي هو الانتقام، وأن نجعل الماضي يدفننا في جو من الاختلافات ونظريات المؤامرة والقصاص (وهناك مثل يقول: إذا أردت الانتقام فاحفر قبرين بدلاً من قبر واحد)..
وأناشد الجميع الكف عن المتاجرة بدم الشهداء والرغبة المميتة في القصاص، وأن تكون أولوياتة النهوض والإصلاح والبناء.
كريم سلامة هو رئيس مجموعة الشرق الأوسط للإستشارات و الخدمات اللوجستية. يعيش في الإسكندرية، مصر و هو حاصل على بكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة الإسكندرية في عام ١٩٨٥